انطباع وتساؤلات.. خارج حدود المنهج ! (عن تجربة الفنان حيدر خالد فرمان)

لقد وضعت وفي أكثر من مرة تساؤلا يشد الذات إلى ذاتها، تماما كما يفعل أي منا وهو يحاور نفسه أمام المرآة، (هو يسأل وهو يجيب)، إنها اختلاجات الذات في سرانية الجلسة، أو لنقل عنها بأنها حضور صادق بين الذات وتمثيلها الخارجي وبين الذات وتعلقها الداخلي للبحث عن إجابات فاعلة للكثير من الإشكاليات المفاهيمية. وهنا يحدد السؤال: ترى ماذا يعني (المقدس)، وماذا يعني (المدنس)؟ . ضل السؤال مطروحا على طاولة الحضور بين الذات وبينها : داخليا وخارجيا، كلما كانت هناك فرصة لمواجهة كل منهما معكوسا على المرآة. لاشك بان هذا المدخل غرائبي وغير واقعي، ولاشك

أولاً: المواجهة والإعلان..

لقد وضعت وفي أكثر من مرة تساؤلا يشد الذات إلى ذاتها، تماما كما يفعل أي منا وهو يحاور نفسه أمام المرآة، (هو يسأل وهو يجيب)، إنها اختلاجات الذات في سرانية الجلسة، أو لنقل عنها بأنها حضور صادق بين الذات وتمثيلها الخارجي وبين الذات وتعلقها الداخلي للبحث عن إجابات فاعلة للكثير من الإشكاليات المفاهيمية. وهنا يحدد السؤال: ترى ماذا يعني (المقدس)، وماذا يعني (المدنس)؟ . ضل السؤال مطروحا على طاولة الحضور بين الذات وبينها : داخليا وخارجيا، كلما كانت هناك فرصة لمواجهة كل منهما معكوسا على المرآة.

لاشك بان هذا المدخل غرائبي وغير واقعي، ولاشك بأنه مشهد مفترض. غير أن ما سأدونه من حوار حول تجربة الفنان والأستاذ حيدر خالد فرمان، في معرضه الأخير الموسوم بـ(التساميات)، لا يبتعد كثيرا عن فهم العلاقة بين هذا المدخل وهذه التجربة. انه ليس بمعرض فني فقط وإنما هو حالة إعلان واضحة لذلك الصراع بين (المقدس) السراني الذي حملته الذات وبين (المدنس) الاشهاري الذي حملته ذوات أخرى، غير انه إعلان من نوع خاص. الإعلان هنا لا يحتمل المباشرة، ولا يحتمل الإفصاح المشخص، وهو مخالفة صريحة لمفهوم الإعلان !!، قد لا يبدو سليما أن احتسبت وبشكل مسبق هذه التجربة للفنان حيدر خالد بأنها تمثيلا إعلانيا، غير أنها كذلك بحسب وجهة النظر التي سأدونها بهذه السطور، خصوصا إذا ما أمنا بان (التشكيل) مهما كانت طرقه الأدائية ما هو إلا إسفار تمثيلي للصور أو للتصورات التي يهتم بها كل باث في محيطه الثقافي، على أن لا يكون في اختياري لكلمة الإعلان كوصف لهذه التجربة الجمالية التي قدمها (حيدر خالد فرمان) ثمة إقلال مجحف لذات التجربة، وعده حكما غير مستساغ في مجال لا يمتلك شرعية إطلاق الأحكام كالمجال النقدي، فإنما اخترت لفظة الإعلان لان الفنان بالفعل كان يحاول الإعلان عن صراع القوى بين (المقدس والمدنس)، في أجواء بصرية اقل ما يمكن أن يصفها أي قارئ لها بأنها أجواء (روحية)، أو صوفية، حملت في ثناياها الكثير من ملامح الاشتغال أو الأداء الطقوسي. وفي تبادل للأدوار بين كل من القارئ والفنان الصانع للعمل الفني، علينا أن ندرك أولا وحدة الخطاب الموضوعي لهذه التجربة التي تعكزت على حادثة عظيمة في تاريخ الإنسانية، كـ(حادثة الإمام الحسين عليه السلام) وقطع رأسه الشريف، فبينما حملت هذه الحادثة وبشكل واضح كل سمات (العلن) وبصوت مدو، جاء حيدر خالد ليعلن عنها بطريقة كتومة، أو غير واضحة المعالم، خصوصا وان التلقي في الشرق لا زال يعاني من أزمة القراءة، ففي استطلاع أجريته مع بعض العامة من الطلبة والعمال والمثقفين حول هذه الأعمال لأستمع إلى تصوراتهم وانظر ردود أفعالهم، كانت إجاباتهم متقاربة إلى درجة كبيرة، فالكل لا يعي هذه الأشكال، بل ولا يستمتع بها، لكن وبعد أن أشرت لهم إلى بعض أفكارها أعجبوا بها، وعلى الفور وجه كثير منهم السؤال الآتي: لما تعقدون الأمر كثيرا؟ تحديدا وان الحادثة واضحة كعيان الشمس، بكل ما فيها من ملابسات. وقد أوقفني هذا الانطباع أمام العديد من الأسئلة، واحد منها تعلق بفكرة الإعلان أو الإسفار.

فان كان القصد من التجربة هو محاولة إظهار الحادثة بصريا، فلما جاء تمثيلها لا يتصف وذلك الظهور الجلي للحادثة عينها؟ .. كلنا يعلم بان الإعلان من شروطه الوضوح والمباشرة، فلماذا هذا التجريد والتعامل الطلسمي مع إعلان الحدث؟ . وحينها أيقنت بأنني أقف أمام تجربة لفنان معاصر يمتلك خاصية الانفعال والرهافة والفرادة، وانه قد تعامل وبشكل ذاتي مع الواقعة، وبحذق قل نظيره، إذ قلب المعادلة ليكون حوار الذات في حضورها الداخلي ممثلا في سطح اللوحة، أهم من سذاجة التكرار في إعادة تمثيل الحدث بما هو مستهلك وتشبيهي. الأمر الذي دعا إلى حضور المفاهيم وتصوراتها، راجحة على حضور الحواس وصورها، فكانت هذه التجربة الجمالية للفنان حيدر خالد فرمان تماما كما يفعل العارف والمتصوف، انه يخشى الإفشاء والبوح والمعلن فيلجأ إلى (التجريد).

إن في قضية حضور المبدع داخل عمله لم تعد مسألة اختيار وإنما هو تقرير لواقع العملية الأدائية، ومن هنا فضلت البدء بحوار الذات مع ذاتها بشكل معكوس في مرآة كل منهما، فالعمل الفني والتجربة الجمالية تكشف عن صاحبها وعن يقين الحضور دون تأثير خارجي. وحتى يكون للعمل الفني قدر من الفرادة والتمييز، فانه يتطلب أن يكون للفنان قدر من الفردانية كذلك في عرضه لخلاصة الموضوع، وإلا تكون نتائج أحبولة العلاقة بين كل من الذات (المُنتِجَة) والموضوع (المُنتَج) مجرد كائنات هجينة أو نوعا من المسوخ.

ثانياً: التصورات والصور ..

لقد تفاعل الفنان لكشف (المقدس) في نصوص بصرية مع تقديمه لعناوين ثلاثة، حملت تسميات لوحاته في هذا المعرض، وهي: (قصة رأس) و (عروج) و(عروج وتسامي)، وتشير دلالات الأشكال والمساحات اللونية وكل تفاصيل الأعمال إلى وجود الصراع بين القوى المتقابلة (تقابل النقيض) بين (المقدس والمدنس)، وبتصرف خال من سذاجة الجرأة في اختيار متنوع لأرضية المشاهد بين الـ(دائري) و الـ(مربع المائل) و الـ(مثلث) الهرمي الشكل الذي كون أخر اللوحات من خلال تراكبها بشكل متلاصق. انه يجري خلف مطابقة تصوراته الذهنية تلك التي تذوقت المشهد كاملا وعرفته، واختبرته في منطق من الحضور والمكاشفة بين الذات وأفكارها؛ لذلك أتصور بان لذة الفعل الجمالي أدائيا عند الفنان غلبت لذة التلقي كفعل متعلق بالعامة، بل وتفوقت عليها. فبما أن الاشتغال هنا (ذاتي) يحاول الكشف عن درامية الصراع بين كل من المقدس والمدنس، تطلب إذا قطع وتيرة اللذة بين (الذات) كمنتِج، و(الآخر) كمتلقي، تحديدا وان المساحة هنا مساحة تعقل ذهني لا مساحة تعلق تشبيهي. ومن هنا حاولت التأكيد على حضور المخاطبة بين الذات والذات في حدودها السرانية في مطلع هذه السطور. لكن لماذا التجريد ؟ ولماذا الابتعاد عن الواقع ؟ ، والسؤال بالإمكان صياغته بطريقة أخرى : لماذا المفهوم والتصورات الذهنية دون المصداق والصور الخارجية؟ .

أكد العديد من الفلاسفة الإسلاميين ومن بينهم أبن سينا والفارابي والسهروردي وابن سبعين… وغيرهم، بان المتعين المادي عديم الأصالة قبال المجرد، ولهم في المقام مبررات عقلية يطول سردها، ولعل في مسيرة الفنان العربي بشكل خاص والفنان المسلم بشكل عام ثمة توصيف شمولي للاشتغال بمنطق الأشكال المجردة، مما شكل نسقا أدائيا لمنظومة الخطاب الجمالي ذاته، بغض النظر عن حرمة الشكل المحاكاتي أو التشبيهي المتعلق بذوات الأرواح، لكن وبعد اشتغالات الفن العالمي تحديدا مع طروحات الحداثة، أخذ الجانب التعبيري لصياغة الأشكال يمثل خروجا عن دائرة التشبية والواقعية، حتى قيل أن مشروع الحداثة إنما هو مشروع (للخلاص)، مرتبط بطروحات الفنان وأفكاره الذاتية، فقد منحت الحداثة نوعا من (الفرادة) للمبدع كي يكون مخترعا للشكل. لذا سأحاول تصنيف هذه الأعمال عادا إياها أعمالا حداثوية، جاءت وفقا للقواعد العامة التي صرح بها رواد (التعبيرية التجريدية).

ثالثاً: الرأس مركزاً للحدث ..

الرأس في الإنسان بمثابة المركز للأطراف، انه عاصمة الجسد، ومحط اهتمام الجميع بالمركز وبالعاصمة أمر لا يحتاج إلى دليل. أنه المكان التعبيري للفرد، ومحل الاشتغال الدلالي لقراءة الشعور. فكشف بعض الحالات النفسية كالفرح والحزن أو الاكتآب يكون من خلاله، وقد يكتفي القارئ بنظرة واحدة لوجه الآخر، فكل واحد يعرف نفسه ويتعلم كيف يعرف الآخر من خلال قراءة التعابير التي يكشف عنها الوجة، لذلك يعد الوجه صورة الذات، أو لنقل بأنه المفردة التي تكشف حضور الذات في تفاعلها اليومي، إذ تميزه عن غيره، لكنه فوق ذلك وأكثر من ذلك.

للرأس في منطق المفاضلة بينه وبين باقي الجسد ثمة ما يجعل من هذه المفاضلة أمرا راجحا لصالح الرأس، نظرا لما يمتلكه باقي الجسد من مقومات وجودية تتعلق بالارواء الفعلي المؤقت لملذات الحياة، وبينما يمتلك الرأس المفهمة الوجودية التي تتعلق بإدراك الحياة وما فيها من ملذات على نحو من التعقل، ولعل في استدعاء أنموذج المجنون مثالا واضحا على ذلك، وعلى ما هو معلوم في حقل الفسلجة من تغليب سلطة الرأس في تحريك كامل الجسد عبر ايعازات دماغية، فان أشرفية الرأس تفوق تصوراتنا بالقياس إلى باقي الجسد، إنه يحوي الاشتغالات الواضحة الآتية:

– فيه صورة الفرد الشخصية وملامح تعين الذات.
– فيه مركز بث الشفرات والتعابير والإفصاح.
– فيه مركز استلام المعلومات وتعقلها، ومركز التخيل.
– فيه اجتماع لأغلب الحواس .
– فيه إدارة الحوار والمشافهة (النطق).

إلى غير ذلك، مما يجعل من رأس الإنسان مصغرا دلاليا مكثفا لوجود كينونته الفعلية، لذلك جاء اهتمام الفنان حيدر خالد فرمان برمزية الرأس التي تعني رمزية الوجود الذاتي كما تقدم، وقد يطالعنا التاريخ عن حوادث كثيرة تم فيها إلغاء وجود بعض الأفراد من خلال السيطرة على رؤوسهم، فما بالك والحال ممثلا برأس الإمام الحسين بن علي عليه السلام، بالحادثة المعروفة في (طف) كربلاء المقدسة، وللمتمعن في اللوحات سيجد حتى حوافر الخيول وهي تطأ الرأس المبارك.

رابعاً: النزعة الصوفية..

لقد كشفت لنا تجربة الفنان حيدر خالد فرمان عن نوع من الاشتغال التأملي باحثا عن مساحات غير قابلة لتفعيل المطابقة والتشبيه، إنه يجول في تصورات كلية لا يمكن لها الحصول وأطراف المعادلة متعلقة بالعالم المادي، كالعروج والتسامي وغير ذلك. صحيح أننا نمتلك نوعا من التفكر في هذه المفاهيم، لكن إدراكها بالمعنى المشخص لا يمكن أن يتم إلا في حالة التجريد التام، لذلك سعى في تمثلات المشهد الصوري إلى تغليب مفهمة الشكل الجمالي على الموضوع الجمالي، على الرغم مما في الموضوع من (دراما) عالية وتراتب حدثي كبير ومؤلم، انه يفكر في لحظات تم فيها قطع الرأس وعروج الروح وانفتاح النفس نحو عالم المجردات بعد تحررها من الجسد والنسبي والمحدد، لحظات لا يمكن حتى الإفصاح عنها، فضلا عن تصورها ومحاولة تمثيلها، لذلك اعد هذه التجربة تجربة صوفية ، بل هي ترنيمات تجاوزت حدود البكاء والتألم، لتفكر في مقامات علوية نالها كل من الرأس بوصفه مركز الوجود الذاتي، والروح والنفس في تساميها، وأخيراً : لعل نبل هذا الأستاذ ومحاسن ما يمتلك من خلق رفيع كان مهيمنا علي وأنا أدون هذه السطور، لذلك راجيا تقديم قراءة أخرى من أكاديمي آخر.

د. أحمد جمعة زبون
جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة

 

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

https://totoagungone.com/ https://motivasiagung.com/ https://totoagung2dua.com/ https://antartidargentina.com/ https://taichinhhieuqua.com/ https://whalebonestudios.com/ https://167.71.213.43/ https://167.71.204.61/ https://amin-toto.com/ https://cadizguru.com/ https://157.245.54.109/ https://128.199.163.73/ https://restoslot4dresmi.com/ https://hokkaido-project.com/ https://slotgacor4djp.com/ https://akb48nensensou.net/ https://bigprofitbuzz.com/