الظاهراتية:(الفينومينولوجيا).. فلسفة أم ماذا؟- 3

الظَاهراتيون يتصدون إلى معالجة الأفكار الفلسفية من خلال الوصف المتعلق بتجاربنا الإنسانية، ليثبتوا أساسهم الذي قامت عليه الظَاهراتية ذاتها، فهي فلسفة الوصف والخبرة التّحليلية، التي تنتجها الذّات بنوع من الوحدة ما بين الذّات والشّيء الذي تقوم بدراسته، “بحيث يكون في وسع أي واحد أن ينظر إلى الأشياء متفاعلاً معها على أنها تمثل نوعاً من الوجود الذي يمكننا أن نضفي عليه دلالاتنا الفكرية، لنحقق نوعاً من التّفاعل في ما بيننا وبين الأشياء”[15]، والضّابط هنا هو خبرة الفرد في تعامله مع (الوقائع): التي تمثل الوجود، والتي سيرفضها الظَاهراتيون لاحقاً؛ على اعتبار أنها وجدت

القسم الثالث: تصورات ختامية.

الظَاهراتيون يتصدون إلى معالجة الأفكار الفلسفية من خلال الوصف المتعلق بتجاربنا الإنسانية، ليثبتوا أساسهم الذي قامت عليه الظَاهراتية ذاتها، فهي فلسفة الوصف والخبرة التّحليلية، التي تنتجها الذّات بنوع من الوحدة ما بين الذّات والشّيء الذي تقوم بدراسته، “بحيث يكون في وسع أي واحد أن ينظر إلى الأشياء متفاعلاً معها على أنها تمثل نوعاً من الوجود الذي يمكننا أن نضفي عليه دلالاتنا الفكرية، لنحقق نوعاً من التّفاعل في ما بيننا وبين الأشياء”[15]، والضّابط هنا هو خبرة الفرد في تعامله مع (الوقائع): التي تمثل الوجود، والتي سيرفضها الظَاهراتيون لاحقاً؛ على اعتبار أنها وجدت جاهزة، وهي مما تركها أو خلفها العلم الذي تعامل مع الأشياء بمعزل عن الذّات.[16] لأنه يقوم بالتّجربة تبعاً إلى قوانينه الصّارمة، وهو حينها ليس سوى (وسيط منفذ) بين قوانينه ونتائج علمه التي حولت الوجود إلى نوع من المعارف المستقلة عن الخبرة، حتى شكل هذا الاستقلال أزمة معرفية على حد قول هوسرل ” فأزمة العلم أصبحت أكثر عمقا ووضوحا، عندما حاولت العلوم الإنسانية تطبيق منهج العلوم الطّبيعية، وتحولت هي الأخرى إلى علوم للوقائع، والأزمة هنا أعمق؛ لأنه إذا كانت العلوم الطّبيعية قد استبعدت الإنسان من الطّبيعة، وجعلت منها مجرد وقائع مستقلة عن خبرته، فان العلوم الإنسانية جعلت الإنسان مجرد طبيعة، مجرد واقعة من وقائعها”[17]، وأنا هنا لم أدرك مصاديق هذه العلوم التي وردت في النّص، إذ ليس ثمة معرفة ما جعلت من الإنسان مستبعداً عن وجوده الطّبيعي، فضلاً عن كونه مجرد طبيعة، الموقف يحتاج إلى بيان وتحليل ونقد، لكن المجال لا يسع لذلك، والمهم أن الظَاهراتية تسعى إلى تكوين خطابها الذي يجيب على تساؤلاتها، لكن من دون أن تستدل أو تستخدم الاستدلال؛ لان الاستدلال مرفوض في اشتغالاتها كما تقدم!، ولكن كيف يكون ذلك؟. ” لنأخذ مثالا أثيرا لدى هوسرل: شيء متموضع في الفضاء. أيا كانت طبيعة هذا الشّيء، فإن تجربته ستخضع لبعض القيود. صحيح أنها قيود غير مرئية، منذ الوهلة الأولى، لكنها قابلة لأن تدرك إذا ما أعملت فيها فكري قليلا: إذ لا يمكن رؤية شيء متموضع في الفضاء في كليته دفعة واحدة، وإنما يجب أن يدرك ضمن رؤيات متعددة متتالية. كما يجب أن تكون هذه الرّؤيات منسجمة. وفي وسع كل رؤية على حدة أن تصحح كل الرّؤيات الأخرى. هكذا يوضح تحليل من هذا القبيل أن على التّجربة، كيفما تكون تجربة لشيء فضائي، أن تمتلك هذه البنية الواضحة. من ثم فإن هذه البنية معطاة قبلاً. وبمعزل عنها، أو بدونها، لن نكون أمام شيء فضائي. ومن جهة أخرى فإننا، بوصفنا لتجربة شيء فضائي في حدها الأدنى، نكون قد فهمنا معنى (الكينونة في الفضاء). ما دام أن الكينونة في الفضاء تعني، بشكل أدق، قابليته أن يكون موضوع تجربة للشكل التي أشرنا إليها لتونا” [18]. وخلاصة هذا المثال هي النّظر إلى الأشياء وان كانت متصورة، وبمعزل عن كل قيودنا لفهم الظَاهرة التي تحيط بنا.

وكأنها تحاول سلخ الإنسان من كل ما يعرف، وتدعوه للبدء من جديد، أو هي تحاول أن تجعل من التّفكر في الأشياء غير مؤدلج ولا هو منتمٍ لأي تصورات أولية، حتى وان كانت تمثل البديهي، أو الذي لا يحتاج إلى برهان، ففي المثال السّابق، وعلى وفق منطق الفيزياء، يستحيل النّظر إلى الشّيء معلقاً في الفضاء، ما دام هناك فعل للجاذبية، غير انه يدعو للتخلي عن هذه التّصورات العلمية، بغية الوصول إلى المفهوم الذي يحدد (الكينونة في الفضاء)، وهكذا يتعامل الظَاهراتيون بشكل عام مع أي شيء، ولعل مثال (الحذاء) في لوحة فان كوخ لـ(هيدجر)، فيه تأكيد آخر للمطلب. فالفينومينولوجيا من جهة أخرى تسعى لإقامة قطيعة معرفية: إبستمولوجية. ” الظَاهراتية تشكل تيارًا فلسفيًا قام بقطيعة إبستمولوجية عن الفكر السّائد في القرن التّاسع عشر، أضف إلى ذلك أنَّ الظَاهراتية، باعتبارها منهجًا لوصف ما هو معطى، تبتعد عن عمل أي تقييم محاولة الوصول بذلك إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية “.[19] وهنا تبدو كمن يطالب بالخبرة لكن من دون الخبرة ذاتها، وعلى ما في هذه الدّعوى من سفسطة، فأنها متوافقة مع رد الفعل النّفسي ذاك الذي حمله الدّادائيون في مطالبتهم لإحراق المكتبات والتّخلي عن التّاريخ. أما كان الأجدر إذاً أن يتخلى هوسرل وغيره ممن تبعه أن يتخلون عن اللّغة ؟، أليست اللّغة وقائع جاهزة، أنتجها التّأثيل واشتغالات علم (الاتيمولوجيا) عبر جهود مضنية وطاعنة في رجوعها نحو بدايتها التي حيرت الاركيولوجيين حتى هذه اللّحظة، لماذا استعمل هوسرل لفظة (المتموضع، والفضاء، والكينونة) ألم تكن هذه الألفاظ وقائع ومعطيات حقول معرفية، على الأقل بحسب اشتغالات المفكر الـ(نمساوي) الأصل الـ(بريطاني) الجنسية (فتجنشتاين:Ludwig Wittgenstein) (1889 –1951)[20]. 

إلا أنهم ومع ذلك يصفون اشتغالهم بالمتعالي أو الفوقي (transcendentally)، والحقيقة أنا لا اعرف ما المراد من هذا التّعالي. هل هو مطلب حتمي الحضور كما هو المتعالي (الكانطي)، الذي يريد به إثبات كيفية انتقال الصّورة من المعرفة السّطحية الحسية إلى المعرفية المجردة التي تتعالى في مراتبها ومنازلها إلى أن تتحد مع المطلق الذي يختزن في جوهره الحقيقة. أم لأنه عند الظَاهراتيين يؤسس قطيعة مع الوقائع وتقريرات العلم فيكون كذلك. ولا شك في أن ما تقدم ليس كافياً لنفهم الظَاهراتية ولو بشكلها الميسر أو السّطحي، غير أننا وبناء على ما تقدم يمكننا النّظر إلى الظَاهراتية على أنها: ” علم وصف الظَاهرة وصفاًمستقلاً عن الوسائط المادية التّجريبية، إذ يعتمد على تحليل الظَاهرة تحليلاً مباشراً، مبنياً علي القصدية في الشّعور، مرتكزاً علىالتّتالي في عملية التّحليل، كما أنه يتحدد بدور الشّعور المحض أو الخالص (PHENOMENOLOGY OF MIND) “[21] مجرداً عن كل وقائع قبلية، وهذا ممتنع بطبيعة الحال بل وهو فاسد بالاستدلال العقلي.

المصادر.
=======
[1] . هتشنسون، معجم الأفكار والأعلام، ت: خليل راشد الجيّوسي، دار الفارابي، ط 1، بيروت – لبنان، 2007. ص 299.
[2]. د. صلاح قنصوة، الموضوعية في العلوم الإنسانية، دار التّنوير، بيروت، 2007، ص 200، 201.
[3]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 19.
[4]. زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ج 1، القاهرة، 1968. ص 363-364.
[5]. د. رونز داجوبرت، فلسفة القرن العشرين- مجموعة مقالات في المذاهب الفلسفية المعاصرة، ت: عثمان نوب، مراجعة: د. زكي نجيب محمود، سجل العرب، القاهرة، 1963، ص 123.
[6]. فتحي المسكيني، الفلسفة استثناء تأسيسي لوعي آخر، الحوار المتمدن- العدد: (3733)، بتاريخ 2012 / 5 / 20. تحت هذا الرّابط(http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=308436).
[7]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 21.
[8]. موريس مرلوبونتي، المرئي واللّامرئي، ت: د. عبد العزيز العبادي، المنظمة العربية للترجمة والنّشر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، بيروت، 2008، ص 147.
[9]. ينظر: 
– Edmund Husserl, Philosophy and the Crisis of European Man, in Phenomenology and the Crisis of Philosofy, translated with an introduction by Qucntin lauer, 1965, p.149
[10]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 20.
[11]. المصدر السّابق، ص 22.
[12]. المصدر السّابق، ص 24.
[13].- Dan Zahavi, Husserl s Phenomenology, Cultural Memory in the Present, Stanford University Press, 2002. p 46.
[14]. I.B.D. p 33
[15]. – Muhammad Kamal, From Essence to Being: The Philosophy of Mulla Sadra and Martin Heidegger, ICAS Press, 2010. p 53.
[16]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 20
[17]. المصدر السّابق والصّفحة ذاتها.
[18]. فيليب هونيمان، الظَاهراتية، ت: حسن الطّالب، ملف الكتروني. (PDF).
[19]. فراس سراقبي، الفينومينولوجيا ونظرية المعرفة، على هذا الرّابط: (http://maaber.50megs.com/issue_january11/epistemology.htm)
[20]. ينظر للمزيد عن هذا الفيلسوف: (http://en.wikipedia.org/wiki/Ludwig_Wittgenstein).
[21]. عبد القادر بوعرفة، المنهج الفينومينولوجي، مدونه خاصة بسعود سالم: في في 30 مايو 2008. على هذا الرّابط: (http://saoudsalem.maktoobblog.com)

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

https://totoagungone.com/ https://motivasiagung.com/ https://totoagung2dua.com/ https://antartidargentina.com/ https://taichinhhieuqua.com/ https://whalebonestudios.com/ https://167.71.213.43/ https://167.71.204.61/ https://amin-toto.com/ https://cadizguru.com/ https://157.245.54.109/ https://128.199.163.73/ https://restoslot4dresmi.com/ https://hokkaido-project.com/ https://slotgacor4djp.com/ https://akb48nensensou.net/ https://bigprofitbuzz.com/