الظاهراتية:(الفينومينولوجيا).. فلسفة أم ماذا؟- 2

ترى هل نحتاج إلى مزيد من الإمعان لنعرف أن الفكر لا يستطيع التّفكير إلا في (شيء ما)، وليس في (العدم). ألم تكن مسيرة المعرفة بشكلها الشّمولي تتبنى دراسة الأشياء، سواء أكان لها تمثل مادي مرئي أم كانت ضمن ما قدمناه من جردة تخص اللّامرئي في ما سبق. حتى يمكن للباحث الاستشهاد بالفلاح أو بالعامل الذي يراقب ناتج اشتغالاته، ما الذي دفع إذاً على سبيل المثال (مرلوبونتي) وكأنه يبغي حفر الخطاطة الجديدة التي ستغير التّاريخ وكأن أحداً لم ينظر إلى الأشياء بتمعن من قبله، فهو يقول:” إذا نجحنا في وصف الوصول إلى الأشياء ذاتها، فأن ذلك لن يكون إلا من

القسم الثاني: الظاهراتية والرؤية الفلسفية.

ترى هل نحتاج إلى مزيد من الإمعان لنعرف أن الفكر لا يستطيع التّفكير إلا في (شيء ما)، وليس في (العدم). ألم تكن مسيرة المعرفة بشكلها الشّمولي تتبنى دراسة الأشياء، سواء أكان لها تمثل مادي مرئي أم كانت ضمن ما قدمناه من جردة تخص اللّامرئي في ما سبق. حتى يمكن للباحث الاستشهاد بالفلاح أو بالعامل الذي يراقب ناتج اشتغالاته، ما الذي دفع إذاً على سبيل المثال (مرلوبونتي) وكأنه يبغي حفر الخطاطة الجديدة التي ستغير التّاريخ وكأن أحداً لم ينظر إلى الأشياء بتمعن من قبله، فهو يقول:” إذا نجحنا في وصف الوصول إلى الأشياء ذاتها، فأن ذلك لن يكون إلا من خلال هذه الكمدة وهذا العمق اللّذان لا يتوقفان أبداً: ليس ثمة شيء يمكن ملاحظته بالتّمام، ولا وجود لمراقبةٍ للشيء تكون دون ثغرة وتكون تامة، فنحن لا ننتظر لنقول إن الشّيء هناك لانا لاحضناه، بل على العكس من ذلك، مظهره كشيء هو الذي يقنعنا في الحال أنه قد يكون من الممكن ملاحظته”[8]. انه أمر بالغ في بداهته، بل وهو ساذج في توجهه، أنا حتى هذه اللّحظة لم أجد اشتغالاً علمياً بمستوى يحقق أن تكون (الظَاهراتية) فلسفة، ناهيك عمّا في هذا النّص الأخير من أفكار ارسطية، وما أود التّركيز عليه بل وتأكيده في الوقت ذاته، هو عدم الرّكون بسهولة إلى تيارات فكرية دفع بها الإعلام كثيرا لتبدو وكأنها فتقاً مزق ثوب التّاريخ الفكري، أو كأنها فتح جديد لتغيير شرائع العقل، ويبقى السّؤال لماذا الفينومينولوجيا ؟.

يشير (هوسرل) إلى نمط من الأزمة نشأت بين العلوم وبين الإنسان الأوروبي؛ لان العلم ينظر إلى الأشياء نظرة استقلالية، في حين يحاول الاشتغال الفينومينولوجي أن يعيد النّظر بين الأشياء والذّات، وانه يجب أن ينظر إليها من الذّات مباشرة[9]. وذلك بأن تصف وتحلل ماهيات الموضوعات والمفاهيم التي تفرضها العلوم بوصفها وقائع مؤسسة جاهزة. مثل افتراض الشّيء المادي والجسم، والبدن والانا، فنقده لا يقتصر على العلوم الطّبيعية وحدها، وإنما يمتد إلى الرّياضيات أيضاً، وحجته في ذلك “أن الرّياضيات إنما تقدم لنا مفاهيم أو تعريفات صورية مجردة، (مثل: الجسم والسّطح في الهندسة) مستخلصة عن طريق التّجريب والاستلال؛ ولذلك فان ماهياتها تكون ماهيات تجريبية (experiential essences)، أما الماهيات الفينومينولوجية فهي ماهيات عيانية (concrete essences)، مستمدة من الحدس المباشر، وليس هناك في إدراك ووصف وتحليل هذه الماهيات أية عملية استدلالية، فكل تنظير استدلالي إنما يستبعد من مجال الفينومينولوجيا”[10] !!. وهنا يحاول هوسرل التّأكيد على مبدأ (الماهيات لا الوقائع)، وهو يحصر الأمر في الماهيات العيانية الخارجية، أي في حقل المرئي فقط، وأقصى حقل اللّامرئي، وهذا يعني أن الإشكال موجود في الرّؤية الهوسرلية ذاتها، إنها رؤية متخبطة، كيف جاز لعلم أن يكون علماً وهو خارج الاستدلال؟ أي منطق هذا؟. فضلاً عن أن (الجسم) أو (السّطح)، إنما هو (شيء) تماماً كالمكعب مثلاً، فصورة الجسم أو السّطح في الرّياضيات ليست هي صورة مجردة وإنما متشكلة ومرئية، أي هي مما يستدل بها بذاتها وليس بغيرها، كما في المسائل غير المرئية. إن صورة الجسم سواء أكانت خارجية أم ذهنية، هي من قبيل ممكن الوجود، وليس من قبيل (العدم)، أو الـ(لا وجود) له؛ ليس لأنها فقط آتية من التّصور الرّياضياتي، فتكون قابلة للإمكان؛ وإنما لأن الرّياضيات بالأساس أخذت صورتها من الأشياء الخارجية بشكل مسبق، فهي كصورة رياضية عن الجسم، إنما جاءت من تلك المشاهدات التي مكنتنا لأن يكون لنا فهمنا الخاص عن الجسم، وهي بالنّتيجة حاصل تحصيل المرئي، فهي ماهية عيانية إذاً، سواء أكانت صورة بالقوة، أم صورة بالفعل، كما أن النّص السّابق حدد ملامح الاشتغال الفينومينولوجي (بالإدراك والوصف والتّحليل) أي أن الإدراك والوصف والتّحليل هي المنطلقات الأدائية للفينومينولوجيا، وان كان هو كنص يبعدها عن وصفها بأنها علم أو حتى فلسفة، على الرّغم من محاولات مجمل مفكريها لان تكون الفينومينولوجيا كذلك؛ لان منطق العلم والفلسفة يستحيل أن يرتدي ثوباً غير ثوب الاستدلال، ولا أتصور أن يكون موضوع حضور الاستدلال في المباني الفكرية أمراً يحتاج إلى دليل.

وهنا أود أن أتوجه صوب العلم الذي جاء به هوسرل بوصفه العلم الأوحد الذي سيحل الإشكال الفكري في علم النّفس، وهو علم النّفس الفينومينولوجي أو الماهوي (eidetic psychology)، الذي يؤكد فيه هوسرل هذه الجدة، بقوله:” وقد جاء مع هذه الفلسفة الفينومينولوجية نظام سيكولوجي جديد مواز لها في المنهج والمضمون، هو علم النّفس القبلي الخالص أو الفينومينولوجي، الذي أثار دعواه الإصلاحية بأنه هو القاعدة المنهجية الأساسية التي يمكن أن يتأسس عليها وحدها علم نفس تجريبي صارم “[11]، ولكن هذه الصّرامة أهي كذلك من دون استدلال أم من دون استعمال البراهين العقلية؟، وهذه مغالطة جديدة. غير أنها قامت على فكرة مفادها أن هناك فرقاً بين مفهوم التّأمل الباطني الانعكاسي (reflection) في الفينومينولوجيا، ومفهوم الاستبطان (introspection) في علم النّفس بمعناه التّقليدي. فهذا الأخير إنما ينظر إلى الاستبطان من خلال ملاحظة ما يحدث بداخله إزاء واقعة ما. أما التّأمل الانعكاسي، فهو وصف لماهية أو معنى تلك الخبرات القصدية للوعي، فأي تقدم أحدث في المجال؟.

هذا في ما يتعلق بالبداية الأولى التي ناقشنا فيها فكرة أو مفهوم (الظَاهرة) والماهية، في الفكر الفينومينولوجي، وهناك فكرة (الأشياء)، التي تعكزت عليها الفينومينولوجيا كثيراً، في مقابل التّصورات، الشّيء في ذاته، أو (الاسطقس)، في الفكر الفلسفي القديم، أو(النّومين) في الفكر الفلسفي الحديث، هذا الذي لم يختلف عليه اثنان أبداً، إلا في وضع حدٍّ له، تماماً كما الوجود الذي لا حدَّ له، وكيف يحدُّ بغيره، فهل هناك ما هو أبين منه، أو أوضح منه فيحدُّ بغيره، وعلى الرّغم من ذلك يشير هوسرل إلى نوع جديد في ارتباط المعرفة بالأشياء، بحسب ادعائه -إذ ليس الأمر كذلك- يرتكز على عودة الفكر إلى نقطة الصّفر أو البداية من خلال الرّجوع إلى الأشياء ذاتها، مستبعدين كل تصوراتنا السّابقة تلك التي منحتنا إياها المعرفة، وعلى مرِّ وجودها ” لأننا نكتشف معنى أو ماهية الظَواهر في الظَواهر ذاتها، فالظَواهر ليست مجرد مظاهر، وإنما تنطوي على معناها في باطنها، واكتشاف ماهية الظَواهر، يكون عن طريق فعل التّأمل الانعكاسي لخبراتنا المتجهة نحو هذه الظَواهر، ذلك مبدأ فينومينولوجي هام كان له أثره في التّناول الفينومينولوجي للخبرة الجمالية” [12]، وعلى الرّغم من أن هذا النّص فيه ما فيه من الصّحة والعافية، إلا انه كاشتغال فكري أدائي، تعتمد عليه المؤسسة الفينومينولوجية ليس بجديد أبداً؛ لان أقدم المعاجم في العالم كانت تفعل هذا الأمر بعينه، فالاشتغال الدّلالي اشتغال قديم، فمنذ متى نحن نحصل على معنى ما، من شيء يجاور الشّيء المراد منه تحصيل المعنى، فمن البديهي أن نكتشف معنى الشّيء في الشّيء ذاته، وليس من شيء آخر غيره، لكن هذا الأمر مرتبط كذلك بالمرئي أو بالأشياء المشاهدة. وكي نستفيض بالأمر أكثر سنقوم بعرض الظَاهراتية بطريقة أخرى.

تعدُّ الظَاهراتية واحدة من الأفكار الأساسية في أوروبا، والعديد من المفكرين المعاصرين يولونها اهتماماً كبيراً، ويحيطونها بهالةٍ عظيمةٍ، فهم يجتمعون حولها ويركنون إليها لسببٍ رئيس وواضح؛ لتخليها عن أي تصورات معرفية سابقة قامت العقول بإلحاقها على أي فكرة، مهما كانت، فالفينومينولوجيا تنظر إلى الأشياء بشكل مجرد، لتصل إلى ماهياتها، بحسب تعبير هوسرل[13]، وهي بهذا تمثل عتبة جيدة لإزاحة (المرجع) بعد تلك التي أسس لها (نيتشه) في مساره العدمي، والتي ستنمو بشكل كبير لتكون قاعدة تبغي تهميش (المرسل أو الباث أو الفنان) بمنطق إزاحة خفي أو غير معلن، كما فعلت ذلك فلسفات موت اللّه، وموت الإنسان، وموت الطّبيعة، وغير ذلك. فهي لهذا الأمر تجذب الكثيرين، تحديدا أولئك الذين يبغون التّخلص من كل ما هو تاريخي في المعرفة والأخلاق والاجتماع والسّياسة وغير ذلك، “لان النّظر بمعزل عن أي اعتقاد مسبق إلى الأشياء سيمنح الأشياء أن تبدو جديدة، وكأننا نكتشفها للتو”[14].

والمتطلع على أفكار الظَاهراتيين يدرك جيداً أنهم يبغون دراسة العالم بوصفه ظواهر، غير أنهم في الوقت ذاته لم يقوموا بتجربة طروحاتهم بما وضعوه من قيد أو شرط في تلقي الظَواهر، بما هي هي مجردة عن أي فهم مسبق، وإنما كانوا يتقصون ما قدمه الفكر الفلسفي ليشبعوه نقداً، وهم بصنيعهم هذا أضاعوا دهشة الجدة التي ينادون بها، وساعد ذلك التّخبط الواضح في مبانيهم الفكرية، حتى أن الكثير من روادها يقوم بتصحيح مسارات من سبقه، كما فعل ذلك (هيدجر)، مع أستاذه (هوسرل)، وكأن ما يقودهم إلى فهم الوجود هو نوع من الرّؤية الذّاتية التي تميز كل واحد منهم، والحقيقة أنهم مغالون جداً في توجهاتهم وطروحاتهم على الأقل في وصفها بأنها تمثل الحل الموضوعي الحاسم بحسب وصف روادها لها.

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

https://totoagungone.com/ https://motivasiagung.com/ https://totoagung2dua.com/ https://antartidargentina.com/ https://taichinhhieuqua.com/ https://whalebonestudios.com/ https://167.71.213.43/ https://167.71.204.61/ https://amin-toto.com/ https://cadizguru.com/ https://157.245.54.109/ https://128.199.163.73/ https://restoslot4dresmi.com/ https://hokkaido-project.com/ https://slotgacor4djp.com/ https://akb48nensensou.net/ https://bigprofitbuzz.com/