الفن والتجربة الرقمية

لم يكن العالم يحتفي بالفن الرقمي، حتى الامس القريب، إلا أنه استطاع أن يحفر وجوده في دائرة التداول والتلقيـ بل وأخذ يزيح الكثير من المفاهيم القديمة، فحين رفضت الحداثة قواعد الكلاسيكية حققت نوعا من الأداء الجديد، والرقمية الرافضة لفكرة الحيز والواقع إلا بما هو عالم افتراضي قد حققت كذلك إداء جديدا.
الفن والتجربة الرقمية - مقال للدكتور أحمد جمعة البهادلي

الفن والتجربة الرقمية

لم يكن العالم يحتفي بالفن الرقمي، حتى الامس القريب، إلا أنه استطاع أن يحفر وجوده في دائرة التداول والتلقيـ بل وأخذ يزيح الكثير من المفاهيم القديمة، فحين رفضت الحداثة قواعد الكلاسيكية حققت نوعا من الأداء الجديد، والرقمية الرافضة لفكرة الحيز والواقع إلا بما هو عالم افتراضي قد حققت كذلك إداء جديدا.

لقد كانت الصّورة الفوتوغرافية والصّورة الرّقمية ترسخ منطقا جديدا لإزاحة الكتلة في فن النحت عبر التداول وعبر التلقي، كما أن الابتعاد عن حرفة وتقاليد فن النّحت أسس لها فكرة استعمال الجاهز والمصنع كذلك، إذ حاول الفنان الفرنسي (دوشامب: Marcel Duchamp)( 1887- 1968) أن يحقق هذه الإزاحة من خلال تقديمه لبعض الأعمال الفنية التي لم يسهم حتى في صنعها بيده، فهي من منجزات الحقل الصّناعي المعروف بـ(Mass production)، أوبـ(Found art)، أو بـ(ready-mades)، قدمها(دوشامب) على أساس أنها أعمال فنية، كما فعل ذلك بـ(المبولة)، ولم يكتفِ بذلك فقط، وإنما اخذ يوقع على العديد من النّسخ، واحتفى بها العديد من متاحف العالم بوصفها تحولا كبيرا في فن النّحت، إنها لعبة للقضاء على مفهوم المُحتـَـرِف والمتخصِص، وترك التّقاليد الفنية والجمالية الأصيلة، كما أعانت ما بعد الحداثة في تفعيلها للسعلة وللمستهلك على ذلك، من خلال جملة من الطّروحات التي قدمها الفنانون بذريعة التّجريب والخبرة ذات الأسس البراكماتية. كل هذه المعطيات جعلت من الشّباب المعاصر أن يتدرب على بعض البرامج فيكون نحاتا بلا مواد، نحاتاً بلا أزميل، وبلا دراسة تخصصية أكاديمية، نحاتاً في عالم الافتراض، والإيهام، إذ سمي هذا الفن بفن النّحت الرّقمي.

طبعا ليس أكثر أصحاب هذا النّمط من الأداء الفني هم من غير الدّارسين للفن والمتعلمين لدرس التّشريح، لكن نسبة كبيرة منهم وجدتهم كذلك، فهم يعتمدون على معطيات البرامج الحاسوبية التي توفر لهم الكثير من القواعد والقياسات الجسدية الانثروبوميتري(Anthropometry)، خاصة وان القالب الجسدي جاهز في هذه البرامج التي شاع استخدامها في الآونة الأخيرة. وما على النّحات الرقمي سوى تلبيسها بالشّخصية المراد تنفيذها، خاصة وان البرنامج يحتوي على عدد من الدّروس التّعليمية المساعدة، مثلها مثل بقية البرامج الأخرى.

لقد حققت المعاصرة بتوفيرها لكل هذه المعطيات، ومن اهمها توفير الحاسوب والاجهزة اللوحية، طابعا ثقافيا جديدا، امتاز بأنه عابر للقارات والمحيطات، فنشأت من جراء ذلك العديد من النّوادي والمقاهي والتّجمعات الالكترونية الافتراضية، فضلا عن المراسلة والحوار المباشر مع الآخر، وهذا دفع الجيل الجديد من الفنانين ان يتبادلوا الخبرات التّقنية ومفاهيم البرمجة، وان يبينوا مهاراتهم الادائية التّقنية عبر الحاسوب ذاته، وفي مجالات متعددة وبمختلف الأصعدة، فقد ظهرت ابداعاتهم في مجال الأفلام الرّسومية المتحركة(الكارتون) والفلاشية، والافلام المتحركة بشكل عام، التي يعتمد فيها على خبرة التّشكيل بالدّرجة الأساسية، فحقق ذلك لهم جمهورا واسعا ومسابقات تحكيمية وانتشاراً عالمياً، وشهرة وغير ذلك من امتيازات الاشهار والحضور. وهذا هو ما دفع لظهور جيل من الفنانين الذّين استهواهم العمل على برامج النّحت الرّقمي باستخدام الحاسوب، وهي كثيرة جدا، اذكر منها الـ(zbrush)، والـ(Autodesk mudbox)، والـ(Poser)، والـ(3D MAX)، والـ(Maya)، وغير ذلك من البرامج، التي حققت نجاحا واسعا في التّداول الرّقمي لفن النّحت، وقد لا يخفى على المتطلعين وجود برامج مهمة أخرى لفن الرّسم وفن التّصميم وفن هندسة المعمار و…، ففي الآونة الأخيرة ومع انتشار ثقافة استعمال الحاسوب في اغلب النّشاط الإنساني، تبعا لما تنتجه شركات البرمجة وتزود به روادها من برامج تساعدهم على إزالة العديد من العقبات في الواقع الخارجي، أو على الأقل تخطيها.

فساعد ذلك على وجود نوع من الهيمنة في التّداول التّقني في العالم المعاصر، حتى لم يبقَ أي شيء إلا وقد تدخلت التّقنية الرّقمية فيه، بدء من العمليات الجراحية الدّقيقة لجسد الإنسان وانتهاء بالعمليات الاستكشافية الفضائية لجسد العالم، غير ان برامج فن النّحت الرّقمي، صارت بمثابة المنافس للإبداع النّحتي اليدوي التّقليدي، والحقيقة أن جميع البرامج التي ترتبط بالإبداع اليدوي إنما حلت كبديل موضوعي عنها، وبعضهم قد لا يرى أن لهذه المسألة ثمة تأثيراً كبيراً على العملية الإبداعية بشكل عام وعلى التّحول في خطاب الجسد الجمالي بشكل خاص. لكن واقع الحال ليس كذلك. خصوصا في تفعيل الصّورة الرّقمية في وسائط التّلقي المعاصر، وفي حث الخيال إلى مناطق أخرى غير واقعية وربما مشوهة.

لقد تحدثت مرارا في أكثر من حوار عن أجساد تخرج من محيط الشّاشات الصّغيرة، وهي أجساد مجسمة ولها القدرة على التّفاعل مع الآخر(الجسد الإنساني الحقيقي)، من خلال الحوار وغير ذلك، وقلنا عن هذه الظّاهرة بأنها ما تزال تشكل لغزا عند الكثير منا في منطقة البحث العلمي، خصوصا وان تقنية الهولوكرام باللّيزر هي واحدة من التّقنيات الأكثر جدلا في عالم الفكر المعاصر، أضف إلى ذلك إمكانية تصنيف الجسد الهولوغرافي، فإذا كانت الصّورة الفوتوغرافية للجسد داخل الشّاشة الصّغيرة، تشير إلى وجود العالم الافتراضي، دون العالم الحقيقي، فالهولوغراف كصورة قد خرجت عن الشّاشة، أيعني هذا أن صورتها من قبيل الصّور الخارجية الواقعية؟، بمعنى هل هي موجود نامٍ حساس مريد بالإرادة أم لا ؟. الباحث يود الإشارة هنا إلى مسألة غاية في الأهمية، من جهة تصنيف الأجساد في الخطاب الجمالي، كظاهرة كوزمولوجية، ولا شك في أن هذا التّصنيف كله يرجع إلى تفريعات ذلك الوجود الكلي في الأبحاث الانطولوجية، والإشارة هذه قد تتعدى المفهوم الفلسفي الذي لحق بالجسد كموجود واقعي خارجي، لأننا هنا نتحدث عن أجساد جمالية فنية افتراضية.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

https://totoagungone.com/ https://motivasiagung.com/ https://totoagung2dua.com/ https://antartidargentina.com/ https://taichinhhieuqua.com/ https://whalebonestudios.com/ https://167.71.213.43/ https://167.71.204.61/ https://amin-toto.com/ https://cadizguru.com/ https://157.245.54.109/ https://128.199.163.73/ https://restoslot4dresmi.com/ https://hokkaido-project.com/ https://slotgacor4djp.com/ https://akb48nensensou.net/ https://bigprofitbuzz.com/